الدكتور مازن عباس يكتب: قصة الفنون التشكيلية في روسيا - التقارب نيوز
الدكتور مازن عباس يكتب: قصة الفنون التشكيلية في روسيا

مفارقات عديدة يمكن أن نرصدها فى مسيرة الفنون التشكيلية الروسية، فمنذ نشأتها  الفتية التى تعود لأواخر القرن السابع عشر تأرجحت بين هاجس التأثر بالمدارس الغربية، والذوبان فى نهج الواقعية الأشتراكية. وكانت البداية فى عهد القيصر “بطرس الأكبر” الذى شيد مدينة بيترسبورج، على ضفاف نهر النيفا لتكون الجسر الذى يربط روسيا بالغرب، وازدحمت قصورها بلوحات الفنانين الذين قصدوها من مختلف أرجاء أوروبا.

وبسبب تقوقعها فى اطار السمات القومية لم تدخل الفنون التشكيلية الروسية الدائرة المعرفية العالمية، وبسبب قلة تنوع الأساليب لم يجد إنتاج الفن التشكيلى الروسى طريقه إلى ثقافات الحضارات الأخرى.

 فلم يكن يوجد فنانون روس متميزون وإنما وجد أسلوب روسى ضاعت فى تفاصيله شخصية الفنان، وقد تكون سيطرة الموضوعات الدينية على نشأة الفنون التشكيلية فى روسيا السبب فى ذلك.

اللوحات التى تتناول صور القديسين سيطرت على إتجاهات الفن الروسى لتكون إستمراراً للفن البيزنطى، وتجاهلت فكرة التجسيم، ما وضع أسس فن الأيقونة الروسى. كما تأثرت اللوحات الروسية بالمدارس الأوروبية فى تصوير وقائع الأحداث الكبرى فى تاريخ البلاد، وأحتل رسم صور النبلاء ورجال البلاط حيزاً كبيراً فى تلك المرحلة.

واللوحات الفنية رغم كل ما فيها من إتقان، لم تكن تستطيع أن تبرز في ثناياها شخصية الفنان الفرد، فكان في روسيا أسلوب روسي له طابع تقليدى كلاسيكى، وطغى الأهتمام بتصوير دقة الملامح والمشهد على هذه الأعمال لذا لم تنتقل إلى العالمية.

نشأة المدرسة التجريدية على يد الفنان “كانديسى” فى بداية القرن العشرين، كان البداية الفعلية إلى إقتحام الفنون التشكيلية الروسية إلى مجالات المعرفة العالمية. ولكن الأشكال البدائية للفن الشعبي الروسي، أدت إلى تجاهل البعد الثالث، وتحطيم الصلات الشكلية مع عناصر الواقع، وتأثرت التجريدية الروسية بهاجس اللحاق بأوروبا. وبقيت هذه النزعة مؤثرة حتى على الإبداعات التى أنتجتها الحركة الثورية الروسية.

فى نفس الوقت الذى بدأت ملامح الخصوصية الروسية تتبلور من خلال طغيان النزعة الرومانسية فى الفن التشكيلى، التى إستغرقها الشغف بالمشهد الطبيعى الساحر، ومزج الفنانون النزعة الرومانسية بالرؤية الإشتراكية الواقعية من خلال رسم حشودً كبيرة من الفقراء، وحياة الفلاحين البائسة.

وشهدت المراحل اللاحقة فى تاريخ الفنون التشكيلية الروسية صراعاً أسفر عن سيادة الإتجاهات الواقعية، ولكن هذه الفنون ظلت متأثرة بنزعات مختلفة بدء من التكعيبية مرورا بالتجريدية، وتميز تطور إتجاهات الفن التشكيلى فى تلك الفترة بأنه لم يعد عشوائياً، وإنما ظهرت مؤسسات تعليمية أخذت على عاتقها إعداد أجيال من الفنانين الروس.

وفى منتصف القرن الثامن عشر تأسست أكاديمية الفنون الروسية لتكون أول مؤسسة تأخذ على عاتقها إعداد أجيال من الفنانين المبدعين على أسس علمية، وعلى ضفاف نهر النيفا فى ربوع مدينة سانت بيترسبورج، بدأت أول مؤسسة تعليمية للفنون تستقبل الدارسين فى مختلف التخصصات بدء من النحت وانتهاء بالرسم، وعقب إنتهاء الحرب العالمية الثانية، نقلت أكاديمية الفنون إلى موسكو .

كانت تضم أقسام قليلة منها النحت والرسم، وعلى مدار مسيرتها توسعت اليوم لتضم معهدين فى موسكو وسانت بيترسبورج، ويتخرج منها سنوياً حوالى مئتين فنان متخصصين فى مختلف أنواع الفنون، كما أن الأكاديمية تمول العشرات من الفنانين العاملين بتقديم منح تمكنهم من التفرغ للإبداع الفنى.

وخلال العهد السوفيتى سيطرت إتجاهات الواقعية الإشتراكية على الفنون التشكيلية، التى جعلت من وظيفة العمل الإبداعى الهدف الأساسى، ولتراجع الإهتمام بطبيعة وسمات هذا العمل. ودفع الإلتزام بالشعارات السياسية إلى تسطيح الإنتاج الفنى حتى يحظى برعاية الدولة، وأسفر ذلك عن إنعزال الفن التشكيلى الروسى عن مجالات المعرفة العالمية، إلا أن ذلك لم يؤثر على تطور الأداء التشكيلى، وإنما كان إختباراً لقدرات الفنانين على تجسيد ثراء فى الألوان، وكأنه حوار لونياً لتحريك المشهد، وإطلاق مشاعر البهجة والفرح فى الأعمال التشكيلية.

الفنون فى العهد السوفيتى عبرت عن توجهات محددة، ولكن للواقعية سحرها الخاص وقدرتها على الفعل الجمالي، والتأثير العالي في المتلقّي، من غير أن يغيب عن الأذهان إتهامها بأنها صارت تكتفي بفعل ما تفعله آلة التصوير من محاكاة سلبية للواقع و موضوعات البؤس البشري.

وخلال التسعينيات من القرن الماضى واجهت الفنون التشكيلية فى روسيا أزمات حادة كادت أن تقضى على الثقافة الروسية ومؤسساتها، وتوقف حوالى مليون فنان روسى عن إنتاج الأعمال الفنية بعد أن أوقفت أكاديمية الفنون تمويل أعمالهم. ما أدى لخروج الفنانين إلى الشارع وإقامة معارض مفتوحة لبيع لوحاتهم، وبالرغم من أن لوحات هؤلاء الفنانين طغت عليها النزعات الكلاسيكية والمشاهد الطبيعية بإعتبار أنها الأعمال الأكثر رواجاً، إلا أن هذا الوضع وفر للفنانين إمكانية تقديم إنتاج معاصر يعبر عن تأثير إيقاعات الحياة الحديثة على عوالمهم الداخلية.

ومنذ بداية القرن الحالى تنامى إهتمام الأثرياء الروس بأقتناء اللوحات الفنية الروسية، حيث بلغت مبيعات هذه اللوحات خلال العام الحالى أكثر من نصف مليار دولار. أسباب إهتمام الأثرياء الروس بالفنون التشكيلية لا تعود فقط إلى إتساع مساحات منازلهم وجدرانها التى تحتاج للتزيين، وإنما أيضاً للموقف الحضارى فى التعامل مع المبدعين ومساعيهم لإحياء التراث الثقافى الروسى التاريخى.

تنامى مبيعات اللوحات الفنىة يمكن أن نلاحظه فى موسكو فقط، أما بقية المدن فلا وجود لهذه الظاهرة، وحرص الأثرياء على إقتناء الأعمال الفنية الروسية ويبدو أن هذا الإهتمام له بعد قومى، لأن اللوحات التي يرسمها الفنانون الروس لاتحقق هذه الأرقام خارج بلدها.

 


0 ردود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

بحث




الحصول على آخر الأخبار تسليمها يوميا!

سنرسل إليك الأخبار العاجلة في صندوق البريد الوارد


© 2018 altaqarub, Inc. Privacy policy